قصة قصيرة – خالي الوفاض

ينام هروبا من ضجيجها ورعونتها. أنهــك المرض جسده النحيل في السنوات الماضية مع بلوغه عتبة الثمانين. يتأمل علاجه وأقراصه أمام المنضدة غير أن أناملــه الضعيفة ويده المشققة من كدح السنين لا تقوى على الوصول لقرص الساعة الثانية عشر (12) ظهراً. يرغب بعدها بالصلاة لكنه بات يخشى من الوضوء في أيام مضت، فقد سقط خلف باب الحمام حين كانت أرضه مبــللّة. زلقت رجله القصيرة وكادت أن تُكسر بعض عظامه. أصبح يتردد بالوضوء ويُفضّـل التيمــّم. في كل ساعة ينام حوالي نصف ساعة، تارةً بسبب غياب الملاطفين، وتارةً عندما يستذكر تعــب السنين.

يستيقظ عادة على عويلها وصراخها، فلها في كل يوم مأتم، تشتهي النحيب كشُربها الشاي ساعة العصر. تُعامله بحسب مزاجها المتقلب رغم أنه ولي نعمتها وما آلت إليه أحوالها من راحة وهناء. كان يواصل الليل بالنّهار أملاً في جــلب لقمة عيش خالصة لوجه الله ومن حلال عرقــه وتراب يــده.

عمل سائقاً على نسّاف يحمل رملاً وينقل حجارةً تسهم في أن يبنــي الناس بيوتهم ويُسكنوا أهليهم. في المساء، يتفقد ملامح بناته من زوجته الأولى التي وافتها المنـية في ريعان شبابها. رحلت عن أقدارهن أربعتهن، لكنها تركت لهن صلاحاً مع الله ملأ قلوبهن إيماناً، وسمى بنفوسهن سمواً وأحلاماً وإلهاماً. في ساعات الليالي المتأخرة يتسلّل ليمسح على جبين بناته الطاهرات فيرى نوراً يشرق بصلوات الفجر على وجوههن. يبادرهن بالحديث السريع كل صباح حاملاً عنهن حقائب المدرسة، ولا يدري ما الذي يحدث على ظهورهن بين ساعات العصر والمساء! استعباد وعذاب وعويل، “وإياكنّ أن تنبسـن ببنت شفة حين يعود الوالد! ” تهدّدهن، الزوجة الجديدة.

مرت السنوات، عمل سائقاً لتاكسي في أتون الحرب وغياب الاستقرار وندرة الوظائف، كي لا يمدّ يده المتيبّسة إلى آخر يُعيّره بدين يوما ما. أنفق على بناته وأولادها ما أمكن جمعه من قوت ومال. وما إن اشتد ساعد أبنائها فإذا ببعضهم يتنكّرون لجهود أبيهم طوال عقود ماضية.أرجوك، هل تمـلك وظيفة لابني أنقذه بها من صحبة سيئة أحاطت به؟!” مترجياً أحدهم حتى وافق مترددا بأن يوظّف ابنه. نال وظيفته وجمع ماله وما هي إلا سنوات ويبدأ الادخار غير آبه بإخبار والده، وهو الذي لم يدخر شيئا في سبيل تعليم أخوته ورعايتهم. يفخر بمنح أمه الأموال والهدايا وإخفاء حقيقة دخله وما يجمعه عن أبيه! أترى يُخشى على مستقبل إبن مثله وأشقاء له..تشابهت قلوبهم.

  

وكأس المروءة الذي تضاءل عدد حامليـه مازال يروي أصحابه، أما كأس الدناءة فلا يُغريك مظهره وملمسـه لأنه سينزلـق وينكسر.

فتى القلم

مازال يتأمل السّاعة، كيف سيصل إلى الدواء؟! تغمره رغبة عميقة بأن تلامس يداه العلاج من دون مساعدة أحد، بل من دون ضجيج أو مساومة رخيصة. انتقل حديثاً بعض أولادها من منزل لآخر راحلين عن منطقتهم التي تقرب من منزل أبيهم إلى دار أوسع وربما أبعد عنه! لن يستغرب أنهم لم يُخبروه بانتقالهم، وهم الذين لا يغمض لهم جفن حتى يخبروا سيدة القوم بأدق تفاصيل حياتهم، ولا يجرؤن على التحرك دون موافقتها، أما أبوهم، فهو المُهمـل المنسي الذي حاول جاهدا إسعادهم وعدم الوقوف أمام مطالبهم مهما كلفه ذلك من ثمن. يُبرّر أحدهم للآخر، فساعة يتعلّلون بكبر سنه، وساعة بعدم ملاءمة ظروفهم لظروفه. وتناسوا أن أي زائر لوالدهم يلحظُ طول أظافره وملابسه الرثّة وحالته المُهمـلة.

لا شيئ يوازي طيـبة قلبـه وبراءة ابتسامته، رغم كل الّلكمات التي يكيلونها له. مازال متسامحاً معهم، يغضّ النظر عن سوئهم، وربّما مسلّماً لهم لضعف حاله وقرب مآله. تستشعر رغبته بأن يرحل مستوراً عفيفاً، وليتهم يتركونه من دون أحقاد، رغم كثرة الأحفاد. 

في دنيا الناس، تتلاطمك الأمواج لترى بشراً تخلو من عقيدة البشرية، وأناساً تنعدم في ضمائرهم أعراف الإنسانية. أما الكيل بمكيالين، فقد أصبح سمة العصور وملمح بعض بني البشر ممن استعد للكيل بثلاثة أو أربعة موازين. معتقدين أن ملامحهم المتناقضة لا يراها أحد. وتناسوا أن مرآة المجتمع لا تنكسر على مرّ العصور، صادقة هي ودقيقة فيما تنقل من تفاصيل البشر. وكأس المروءة الذي تضاءل عدد حامليـه مازال يروي أصحابه، أما كأس الدناءة فلا يُغريك مظهره وملمسـه لأنه سينزلـق وينكسر.

فتى القلم – 11 مارس 2021